منظمات المجتمع المدني والتمايز عن الدولة والسوق
هناك ما يميز منظمات المجتمع المدني عن مؤسسات الدولة أو مؤسسات اقتصاد السوق (شركات، مصانع، ورش، بنوك، مطاعم، مشاريع خدماتية مختلفة، وما شابه). ولعل أبرز ما يميز المنظمات المدنية عن الدولة والسوق يكمن في طبيعة العلاقة التي تقيمها مع جمهورها. وهي علاقة تفترض امتلاك هذه المنظمات ليس مجرد درجة عالية من الاستقلالية في إدارة شؤونها وفي صياغة خططها ونشاطاتها وفي محرك علاقتها مع الجمهور (فهذه الاستقلالية قد تكون متوفرة في مؤسسات القطاعين الخاص والعام)، بل تتمايز في شكل ومضمون العلاقة التي تقيمها مع جمهورها. ولا تتعامل معه من موقع العلاقة بين المؤسسة والفرد وفق إجراءات وقوانين وقواعد مقننة (كما يفترض أن تتعامل معه الدولة). بل تتعامل معه بالأساس كجمهور مكون من فئات متباينة المصالح والاهتمامات والاحتياجات والتكوين (من حيث الجنس والعمر)، من موقع تمثيل هذه المصالح ، ومن موقع الحرص على إشراك الجمهور في تنظيم نفسه وفي الدفاع عن حقوقه الجمهور ورعاية احتياجاته الخاصة..
ويشرّع استقلالية المنظمات المدنية في إدارة شؤونها الداخلية وصياغة برامجها وخطط عملها القوانين مشرّعة. وهذه القوانين تحددها موازين قوى اجتماعية وسياسية، وتتأثر بعوامل إقليمية ودولية. ويحدد مضمونها وتطبيقاتها كقوانين حامية للحريات العامة ديمقراطية النظام السياسي، والقوة التفاوضية لمنظمات المجتمع المدني الرئيسة، والتي تحددها فعالية واتساع القاعدة الجماهيرية لهذه المنظمات وطبيعة العلاقة التي تقيمها معها (قدرتها التعبوية). فبعض منظمات المجتمع المدني - في مجال العمل السياسي الحزبي، على سبيل المثال - قد يحظر عليه النشاط العلني. وفي هذه الحالة يتحدد تأثير مثل هذه المنظمات وفعاليتها بمدى تأييدها ودعمها من الجمهور، ودرجة القمع الذي تتعرض له من السلطة المركزية أو السلطة المهيمنة (وطنية كانت أم أجنبية). ومن الواضح أن قدرة منظمات المجتمع المدني على التواصل والتجدد مرتبطة، من بين عوامل أخرى، بقدرتها على تلبية حاجات وتطلعات اجتماعية وبقدرتها على تمثيل مصالح فئات اجتماعية ودورها التعبوي والتنظيمي.كما تتصل بقدرتها على حشد الموارد الضرورية لمواصلة وتوسيع نشاطها. ويمكن القول أن منظمات المجتمع المدني تستمد مبرر وجودها وشرعيتها، بالأساس،من علاقتها الخاصة بجمهورها وعلاقته بها، وشكل هذه العلاقة التي قد تستند إلى ما توفره من خدمات مادية أو تأهيلية، أو إلى قدراتها التنظيمية والتعبوية في الدفاع عن حقوق ومصالح هذا الجمهور، وإلى فعالية نشاطها السياسي أو الاجتماعي أو الفكري أو الثقافي.
من هنا يمكن القول أن ما يميز، وإن بشكل عام جدا، منظمات المجتمع المدني، بتنوعها الشديد، عن مؤسسات الدولة (التنفيذية والتشريعية والقضائية) يتمحور حول طبيعة نشاطها، وما يفرزه من أنماط تنظيمية متنوعة. فالعلاقة بين المواطن والدولة الوطنية العصرية هي علاقة تعاقدية، مقننة، عادة، في دستور أو قوانين أساسية، تتجسد في واجبات محددة (دفع ضرائب، خدمة وطنية، احترام القانون…). كما تتجسد في حقوق (حق التنظيم والتعبير عن الرأي والمعتقد، والوصول إلى خدمات أساسية، الخ).
وتتمايز علاقات المنظمات المدنية مع الجمهور عن علاقته بالمؤسسات الاقتصادية والمالية المرتبطة بآليات السوق الرأسمالي والقائمة على الربح وإنتاج سلع وخدمات مختلفة موجهة للسوق، فهذه المؤسسات (مؤسسات القطاع الخاص) تتعامل معه كمستهلك أو كموظف أو أجير، أو في أحسن الأحوال كمستثمر. فمحرك عمل وهدف منظمات المجتمع المدني ليس الربح أو تطوير آليات السوق الرأسمالي. فهو محرك يتحدد وفق تنوع منظمات المجتمع المدني (عمل الخير، الإغاثة، التنمية، التأهيل، التنوير، الرعاية، التضامن الاجتماعي، التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي …). أي أن مجالات منظمات المجتمع المدني هي تلك المجالات التي لا تخضع لإدارة وتوجيه مؤسسات الدولة وتنظيمها، وتعتمد إدارات مستقلة يخضع دورها وأشخاصها وبرامجها وخططها، نظريا على الأقل، لموافقة وتوجهات ومساءلة الأعضاء والجمهور المعني. كما لا تخضع نشاطاتها لاعتبارات وآليات السوق، وإن كانت غير معزولة عنه. ولعل هذا الاعتبار كان وراء اعتبار المجتمع المدني، عند مفكرين مثل غرامشي، المجال الذي يجري فيه الصراع على الهيمنة القائمة على الاقتناع وليس على السيطرة.
يمكن النظر إلى منظمات المجتمع المدني (والأهلي) من منظور وظائفي. أي من حيث ما قد توفره من حماية إزاء تعسف أو تجاوزات السلطة المركزية، وكذلك إزاء ما تفرزه آليات السوق الرأسمالي من استثناء ولامساواة وتهميش. لكن من وظائف منظمات المجتمع المدني أن توفر الحماية للفرد ضد عسف أو قمع أو تجاوزات بعضها البعض بما في ذلك تعسف المنظمات الأرثية (العشائرية والطائفية والمحلية). وتجدر الإشارة هنا أن من وظائف الدولة الديمقراطية توفير الحماية للمواطن من تجاوزات لحقوقه قد تقوم بعض منظمات المجتمع المدني أو الأهلي.
برز الاهتمام بالمنظمات المدنية باعتبارها وسائط للتنمية في العقدين الأخيرين. وترافق ظهور هذه توجه المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ..) نحو الخصخصة، والتكييف الهيكلي وتقليص دور الدولة الاقتصادي في إطار تهيئة المناخ ا لنمو القطاع الخاص، وتقليص خدمات الدولة الاجتماعية للمواطنين. ومن هنا بات ينظر إلى المنظمات الأهلية كوسائط للتنمية المحلية وتولي وظائف "دولة الرعاية"في مجال توفير خدمات أساسية للمواطنين. وتم تسويغ هذا التوجه عبر مقولة أن حرية تشكيل منظمات مدنية هي صلب حقوق الإنسان. واعتبار أن هذا الحق يتجسد في تشكيل الروابط والمنظمات والمؤسسات الهادفة إلى تحسين مستويات المعيشة، والمطالبة بتنفيذ برامج وخطط وقوانين معينة، والدفاع عن مصالح وحقوق الفئات الاجتماعية المختلفة. ومن هنا فكرة مشاركة الحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني ( القطاعات الثلاثة) في عمليات التنمية. ونجد في هذه التوجهات تفسير الاهتمام الدولي (الغربي الحكومي والمدني المحلي) في تشجيع وتمويل العديد من المنظمات غير الحكومية في دول العالم الثالث، بما فيها العالم العربي، باعتبارها أقل عرضة للفساد والهدر من المؤسسات الحكومية وأقدر على الضغط على هذه ومراقبتها. ويترتب على التمويل الخارجي لقطاع من المنظمات المدنية تساؤلات تتعلق بتأثير "أجندا" الجهات المانحة على برامج المنظمات المدنية المستقبلة، كما على قدرتها على إدامة نفسها، وعلى التمتع باستقلالية برنامجية ومالية.
المجتمع المدني - يطالب بحقوقه
الشيخ سلمان العوده - تعصب المجتمع المدني
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق