المجتمع المدني - يطالب بحقوقه

الشيخ سلمان العوده - تعصب المجتمع المدني

الثلاثاء، 12 مايو 2009

كان للشهيد فتحي الشقاقي عبارة موحية عن المثقف حين طلب منه تعريفه" إن المثقف أول من يقاوم و آخر من يهزم بل ينبغي ألا يهزم" . فالمثقف هو ضمير الآمة الحي الذي اذا هزم هزمت الآمة وانكسرت و عليه فلا بد أن يظل دائما يقضا ، مقاوما، متحفزا.

المثقف/الضمير في زمننا الرديء هذا أصبح عملة نادرة حين طغت على السطح عملات أخرى مزيفة، ملتبسة ، ضالة و مضللة .
ومع اشتداد الهجمة الأمريكية الإسرائيلية على المفاصل الإستراتيجية للأمة باتت الفتنة اشد ظلاما و المثقف/الضمير اقل وجودا أو تأثيرا وانتشرت دكاكين حقوق الإنسان و المجتمع المدني التي تدعي الدفاع عن هذا الإنسان و ذاك المجتمع و هي في اغلبها مجرد أدوات طيعة في أيدي القوى الغربية و في طليعتها واشنطن لاختراق مجتمعاتنا و لتفكيكها و إعادة تركيبها وفقا للمصالح الإستراتيجية الأمريكية التي هي في الأصل ابرز تجليات الإستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة.
إن أمريكا التي لها في العالم 720 قاعدة عسكرية ينتشر فيها 452 ألف جندي على امتداد 28 دولة لا يكفيها هذا إنها تريد الاستناد إلى شرعية مجتمعية أكثر من استنادها إلى شرعية القوة المسلحة.
وظاهرة التمويل الأجنبي لمراكز البحوث أو بعض المؤسسات الاجتماعية قديمة قدم الظاهرة الاستعمارية في بلادنا و لكنها كانت محدودة و موضع اتهام من جانب قوى التحرر الوطنية و القومية و الإسلامية و اليسارية. على أن الظاهرة المذكورة انتقلت إلى مستوى نوعي جديد بداية في دول أوروبا الشرقية مع نهاية الثمانينات و أوائل التسعينات .. وقد لعبت دورا بارزا في الانتفاضات التي اندلعت في تلك البلدان.


و قد كانت الحكومة اليوغسلافية السابقة في عهد ميلوزوفيتش قد أصدرت بيانا تفصيليا عن كيفية تغلغل النفوذ ين الأمريكي و الأوروبي من خلال منظمات حقوق الإنسان أو التدرب على الديمقراطية أو إدارة مراكز الاقتراع.


و قالت سارة باكستر مراسلة الصنداي تايمز البريطانية في عدد 23ا فريل 2007 : " إن الثورة البرتقالية كانت واحدة من الثورات التي اشرف عليها إلهاما و تمويلا و توجيها السيد " اكرمان " مدير المركز الدولي للصراعات الغير عنيفة " في واشنطن و مدير بيت الحرية "(فريدوم هاوس) وكذلك جورج لوروس صاحب مؤسسة سوروس التي تمول بدورها منظمات المجتمع المدني.


وقد شكلت النجاحات التي تحققت عبر الأفراد و المنظمات المعتمدين على التمويل الأجنبي تشجيعا لتعميم التجربة عالميا فكانت واحدة من سمات العولمة و الهيمنة الامبريالية في مرحلتها الجديدة ما بعد انتهاء الحرب الباردة ، وان كانت تمرر في السابق تسللا و تحت أغطية كثيفة بسبب انتهاكها لمبدأي سيادة الدولة و عدم التدخل في الشؤون الداخلية فقد أصبحت و منذ العهد الثاني للرئيس كلينتون علنية ، وراح البعض على المستويين العالمي و المحلي يعتبرها أمرا " مشروعا".


وقد صرح احد " اراخنة " حقوق الإنسان في تونس لصحيفة الشروق اليومي الجزائرية : " مادامت الحكومات تتلقى المساعدات الخارجية فلماذا لا يكون من حق الأفراد و المنظمات غير الحكومية أن تتلقى المساعدات الخارجية؟ ".

وراح آخر في إحدى مقالاته بجريدة القدس العربي يدافع عن نظرية انتهاء مبدأي سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية الذين قام عليهما القانون الدولي منذ اتفاقيات ويستفاليا في أواسط القرن الرابع عشر و كرسها ميثاق هيئة الأمم المتحدة و من قبله ميثاق عصبة الأمم.

إن إسقاط مبدأي سيادة الدولة و عدم التدخل في الشؤون الداخلية يعني إلغاء للقانون الدولي وزج العالم في فوضى " مشرعنة" تلقي و ما تسميه واشنطن " الفوضى الخلاقة " .

إن إسقاط هذين المبدأين يعني استباحة الدول للهيمنة الخارجية و من ثم لا حاجة إلى إظهار المخاطر والسلبيات التي ستلحق شعوبنا على كل المستويات ، في حالة التسليم بهذه الاستباحة.

إذا كان القانون الدولي يعطي الحق للدولة ذات السيادة أن تتلقى المساعدات الخارجية فان الشعوب ترفض أن تتلقى دولها مساعدات مشروطة تمس السيادة و تصادر الاستقلال و تستبيح المصالح العليا للدولة و الشعب الأمر الذي يسقط حجة تشبه الأفراد و المنظمات و الأحزاب بالدولة.فالذي ينطبق على الدولة لا ينطبق على المنظمات أو الأفراد هذا من جهة و من جهة أخرى فان التساهل تحت اى حجة بتلقي المساعدات الخارجية من قبل أفراد و أحزاب أو منظمات غير حكومية و بعيدا عن مراقبة الدولة و قوانينها يشكل خطرا على الأمن القومي لأية دولة ، فضلا عن إفساده المنظمات و الأفراد و إيقاع الفتن الداخلية.

و عبثا يحاول احد إقناعنا انه يتلقى مساعدات غير مشروطة من أمريكا أو الدول الأوروبية أو من ينوب عنهما، لان من الوهم إسقاط تجربة التاريخ القديم و المعاصر ، فالظاهرة ألان عالمية و قد أصبحت فضائحها تزكم الأنوف أينما حلت و تحت أي اسم استخفت.

إن التمويل الخارجي المذكور لا يمكن فهمه إلا في سياق المحاولات الأمريكية و الأوروبية لاختراق العالمين العربي و الإسلامي تحت شعارات الديمقراطية و حقوق الإنسان و المرأة.

و نذكر أن حزب التجمع المصري و هو احد ابرز الأحزاب المصرية قد شكل لجنة سنة 1999 لبحث مسالة التمويل الأجنبي خصوصا و قد عرض عليه المعهد الجمهوري و الديمقراطي الأمريكيين تدريب كوادر التجمع على العمل السياسي و الجماهيري و الانتخابات.

و قد كان قرار اللجنة الذي اقره المكتب السياسي للحزب : رفض أي تميل من أي جهة مع السهر على تنقية المجتمع المدني من انحرافات و من أي جماعات تشوه وجهه الناصع عبر تميل مشبوه المصدر و الغايات.

هذا التمويل المدان و غير القانوني يستهدف تحقيق غايات سياسية و اقتصادية تخدم مصالح الغرب و الدولة العبرية، وذلك باعتماد مسميات ووسائل جديدة تجذب قطاعات من النخب عن وعي أو غير وعي و قد طغت عليهم طموحات مالية غير مشروعة و سهلة التناول ، ولو على حساب الكرامة الوطنية و مصلحة الشعب.

يجب أن يرى التمويل الأجنبي في البلدان العربية و الإسلامية و دول العالم الثالث بمفهومه الصحيح وهو سعي الجهات الامبريالية للسيطرة و التغلغل من خلال مقولة تشجيع منظمات المجتمع المدني.


يذكر انه في جويلية 2004 أطلقت مجموعة الثمانية الاقتصادية مبادرة سميت " الشراكة من اجل التقدم و مستقبل مشترك مع منطقة الشرق الأوسط الكبير و شمال إفريقيا" و العنصر الأساسي في هذه المبادرة هو " منتدى المستقبل الذي يعمل كإطار لاجتماعات منتظمة تهدف إلى التركيز على مسائل الإصلاح و التواصل مع القطاع الخاص و منظمات المجتمع المدني.

و في مؤتمر ألثمان الأخير انتزعت الولايات المتحدة الأمريكية قرارا بتخصيص أموال لدعم المجتمع المدني ضمن إطار الشرق الأوسط الواسع.

وفي المنتدى الاجتماعي الذي عقد بالبحرين سعت الإدارة الأمريكية و بدعم أوروبي غالى انتزاع إقرار من الدول العربية المشاركة بشرعنة الدعم الخارجي لما يسمى المجتمع المدني و من دون تدخل الدول أو معرفتها أو إشرافها ، أي حق الاتصال المباشر بالأفراد و المنظمات ..الأمر الذي حال دون إصدار بيان مشترك عن المنتدى اثر انسحاب و رفض غالبية الدول العربية.

ولمزيد الإفادة نقدم بسطة عن أهم الجهات الممولة و هي بيت الحرية ( فريدوم هاوس) .

هذه المنظمة التي مولت و دعمت انتصار حركة تضامن في سياق الحرب الباردة بزعامة ليش فاليزا في بولندا في الثمانينات كما مولت المناهضين في صربيا و أوكرانيا و قيرقيزستان بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عبر جهود المعهد الجمهوري الأمريكي.

بيت الحرية هذا يصنف إسرائيل كدولة ديمقراطية حرة بينما يسم مصر كدولة غير حرة و يجعل السعودية بلد يهدد الحرية في العالم و يصف ليبيا و إيران كحالتين شديدتي التطرف في قمع الحريات.
و قد أصدر تقريرا عنوانه " المطبوعات السعودية المثيرة للكراهية تملأ مساجد أمريكا " وذلك ليحض على تغيير النظام السعودي لأنه يسمح بإعدام الشواذ جنسيا و يرفض سفور المرأة .. وهي المنظمة ذاتها التي انكشفت نياتها بشأن تقويض المجتمعات الإسلامية من قبل أنصار إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام ، و هذا البيت هو نفسه الذي رسم الإستراتيجية الأمريكية لنشر الديمقراطية عن طريق المنظمات غير الحكومية من خلال شهادة نائب رئيسها السفير مارك بالمر أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في 8 جويلية 2007 و التي قدم فيها أجندة العمل التي تتلخص في الرجوع إلى كتيب أصدره البيت سلفا بعنوان " كيف يمكن الظفر بالحرية ؟" و فيه 67 طريقة لقلب نظم الحكم من خلال منظمات المجتمع المدني بتكتيكات المقاطعة و المظاهرات و تعطيل المرور و الإضرابات والاعتصامات و العصيان المدني وتجريد الحكام من الشرعية، مطالبا بمزيد الدعم المالي لنشطاء حقوق الإنسان.

و قد خصصت الإدارة الأمريكية مبلغ 4،1 مليار دولار سنويا لتمويل هذه المنظمات وخصصت منها مبلغ 350 مليون دولار لمنظمات شمال إفريقيا.

خلاصة حديثنا:

إن التمويل الأجنبي هدفه الانقضاض على الشعوب و تخريب المنجزات الوطنية و اختراق الاستقلال الوطني عبر الجوعى إلى المال و السلطة.. و المأساة أن بعض هؤلاء لا يشعر انه يخدم أجندات أجنبية لأنه يعتبرها أجندته و مشروعه النضالي .

بعض هذه المنظمات تبرر اعتمادها على التمويل الأجنبي كونها مرغمة على ذلك لضآلة التمويل الذاتي من جهة و لقسوة و قمع حكوماتها لها و لان بمقدورها أن تأخذ المال الأجنبي وتطبق أجندتها الخاصة ، و هي بهذا تضحك على نفسها لان الدول الممولة و أجهزتها الاستخبارتية و المنظمات الغير حكومية التابعة لها ليست فاعل خير و إنما لها أجندتها و من لا يتوافق مع هذه الاجندة لا ينال منها تمويلا ، ولا حتى اعتباره من المجتمع المدني.

المهمة التي تتصدى لها المنظمات الممولة أجنبيا و بغض النظر عن مسمياتها هي إفساد اؤلئك الذين يعملون للصالح العام . فهي إذ تضعف الدولة فإنما تمتص الغضب السياسي من خلال حنفية الدعم.. إنها تسعى إلى تحويل ضمائر الأمة إلى ضحايا غير قادرين على المقاومة والممانعة السياسية حيث تشكل جدارا عازلا بين الحكومات و شعوبها و تعظم في الوقت ذاته الولاء للأجنبي الممول.

إن الجمعيات الممولة من الخارج مخلب قط للأجنبي بل هي جسر عبور له لتعميق المحسوبية ونشر ثقافة التخريب و التطبيع و التراجع ، إنها ثقافة توزيع غنائم التمويل الأجنبي عن طريق نهب الأموال المحرمة و ادعاء نشاطات وهمية و احتكار المواقع للذات و الأقربون ، الأمر الذي يفرض على المنظمات الشريفة أن تسبح ضد التيار.

و لهذا فان المنظمات التي تعتمد على التمويل الذاتي على تواضعه تمثل في المقابل الظاهرة النضالية الجديدة التي تحافظ على كرامتها و كرامة شعبها و المصالح العليا للأمة و هي تشد الأحزمة على البطون.إن ثقافة التقشف و الاعتماد على الذات و تحمل الصعاب يجب إعادة إحياؤها و تفعيلها في الظروف الجديدة التي تسعى العولمة فيها إلى تحويل النخب و الشرف الوطني و عزة الأمة إلى سلع تباع و تشترى في الأسواق المفتوحة.

(المصدر: موقع "السبيل أونلاين.نت" بتاريخ 23 فيفري 2008)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق